ذكريات من الماضى- حياة بسيطة وسعادة لا تُنسى
المؤلف: علي محمد الرابغي08.07.2025

في غمرة هذه المحنة التي طالت أصقاع المعمورة وأدخلت الناس في دوامة من القلق والانتظار، يحدقون في المستقبل القريب بتخوف مما تخبئه الأيام القادمة.
كيف كانت أيامنا في الماضي الغابر؟
أجد لزاماً عليّ، إنصافاً وصدقاً مع كل مواطن، أن أشارك تجربة عشتها منذ سبعينيات القرن الهجري. كنت يافعاً في مدينة رابغ، وما زلت أذكر كيف كانت السعادة تغمرني وأنا أرتدي (كمراً)؛ أي حزاماً أخفي فيه نصف قرش. كنت أعتز بهذا المبلغ الزهيد، أنقله بين جيبي الأيمن والأيسر، وأتفقد وجوده خشية الفقدان. كانت الحياة شاقة وقاسية. ثم انتقل والدي، رحمه الله، بحثاً عن الرزق إلى جدة، بعد أن حاول حظه في التجارة والكسب منها.
عندما كان للقرش قيمة
التحق والدي بوظيفة في الثكنة العسكرية بجدة. وكنا أنا وأخي كامل، رحمه الله، نسير على الأقدام في الصباح الباكر من الكندرة إلى العلوي، حيث المدرسة المنصورية والأساتذة الكبار الشيخ حسن أبو الحمايل وعلي سرور وبكر إدريس ونخبة محترمة فاضلة. كان والدي، رحمه الله، يعطيني ثلاثة قروش ولأخي كامل قرشين. وكانت الفترة الدراسية على فترتين، صباحية ومسائية، مما اضطرنا لتناول طعام الغداء من السوق. كان بائع الشربة والكرشة بجوار الشلبي العطار الشهير. وكانت الخمسة قروش تكفي لغدائنا؛ شربة وقرص خبز. وبعد يومين نشتري قرص صامولي وحلاوة شامية، ونحمد الله على ذلك. كانت الكهرباء ضرباً من الخيال بالنسبة لنا، لا نعرفها إلا في سوق الندى بشارع قابل، حيث كان التعامل بحساب اللمبة. أما نحن وأمثالنا، فكنا نستخدم الفوانيس ثم الأتاريك. حتى منّ الله على الوالد بالانتقال إلى الطائف. وكان الجفالية، رحمهم الله، أول من بدأ بإنارة الكهرباء في مدينة الطائف على سبيل التجربة ثم تعميمها.
في الطائف، تبدل الحال وازداد دخل الوالد. أذكر على سبيل المثال أن راتب الوالد كان 280 ريالاً ثم ارتفع إلى 360 ريالاً. وكان القرش عملة ذات قيمة، إذ نشتري الفول والعيش والتميز بالقروش. وكانت اللحوم والخضراوات بالريال. وكانت الطائف جنة في الربيع، ورغم كثرة المصطافين، إلا أن الفاكهة كانت وفيرة وكانت ترفاً ينعم به المواطنون ويستشعرون معه لذة الحياة ورغد العيش، وهذا ما يميز الطائف. ولأن الطائف لم تكن بها أقسام أدبية، وكنت وقتها في مدرسة الملك فيصل النموذجية بالطائف، وكان محمد فدا، رحمه الله، مديرها، وقد بذل جهوداً مضنية لفتح القسم الأدبي، ولكن الزميلين الدكتور كمال جلال داغستاني وحسن أسطى لم يقتنعا والتحقا بالقسم العلمي. فاعتذر مني المربي الفاضل الأستاذ فدا، وانتقلت إلى جدة للالتحاق بالمدرسة النموذجية بجدة (السبع قصور)، وكان مدير المدرسة الشيخ عبدالله محمد آل الشيخ، وكان نعم الرجل، وكان مدير التعليم الأستاذ عبدالله بوقس، رحمه الله. وفي جدة، كانت الدولة تصرف 150 ريالاً للطالب المغترب. وكانت الحياة هادئة رغم الفقر والمعاناة، فعلى سبيل المثال، كل يوم خميس أذهب من جدة إلى مكة، ومن مكة أركب (الأبلكاش) عبر طريق سيل الشرائع، البهيتة، السيل الصغير والسيل الكبير، ثم الطائف، عبر طرق وعرة مليئة بالغبار والرمل والجبال. ومع ذلك، بمجرد الوصول إلى الطائف، أنسى التعب. وفي أقل من 24 ساعة، أكرر المشوار مرة ثانية إلى مكة ومنها إلى جدة. هذه المشاهد المعيشية أسوقها فقط لمن أنعم الله عليهم ورزقوا بالعيش الرغيد والترف، حتى أنهم لا يصغون ولا يستمعون لحكماء الأمة الذين كانوا يحذرونهم من تقلبات الدهر ومن يومهم هذا، وإن دوام الحال من المحال. ومع ذلك، كنا نعيش في غاية السعادة، وكنا معشر الأصدقاء نعيش في بحبوحة من العيش، لا نفكر في الغد ولا نتابع البورصة ولا سعر الدولار، وإنما كنا نمارس الرضا والقناعة بما قسم الله لنا.
ليست الثروة النفطية وحدها سر بقاء الأمم
وعشنا ازدهار الخير والنماء وتدفق النفط بكثرة. كانت الأرض، كما عهدناها، كريمة معطاءة، وكانت قفزة تبعتها قفزات، حتى أصبحنا بين ليلة وضحاها نمتلك الطائرات الخاصة والسيارات الفارهة، ونمارس السياحة في أرقى بقاع العالم. وكان الخير وفيراً، وكنا لا نلقي بالاً بما يقوله العقلاء. اتقوا الله واشكروه، فزوال النعم شيء خطير. وقد قالها الملك فيصل، رحمه الله، ذلك العبقري الرجل المؤمن الذي مات في سبيل الله، كان يقول لأمريكا ولكسينجر وزير الخارجية: إننا قريبو عهد بحياتنا الفطرية بالخيام والإبل، فلا يهم أن نفقد البترول، ولكن الأهم ألا نفقد إيماننا بالله، فهو ثروتنا الدائمة وهو اليقين الذي يجب أن يسكن قلب كل مؤمن ("ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك").
أسوق هذا لعل من يقرأه يتعظ، وأيضاً ليؤكد أن دوام الحال من المحال، ولعلها غيمة صيف ستنقشع قريباً بإذن الله وقوته. وحسبي الله ونعم الوكيل.